التصدير

استكشاف قارة الشعر العربي
إن الإقدام على تأليف معجم تراجم في أيٍّ من فروع المعرفة هو مغامرة كبيرة تقتضي جهوداً استثنائية، ولكنها مغامرة ضرورية تستحق كل ما يبذل فيها من عناء. فإذا كانت المعرفة هي التي تحرر الإنسان، فإن هـذا التحرر غير ممكن إلا من خلال امتلاك معرفة شمولية بميدان معرفي ما، يمكن للباحث البصير أن يستنبط منها القوانين والمبادئ العامة التي تتحكم في الجزئيات، فالمعرفة الجزئية تبقى قاصرة عن بلوغ القوانين والمبادئ العامة التي تحول المفردات المعرفية من أشلاء متناثرة إلى كائن مكتمل نستطيع من خلاله أن نصدر الحكم الصحيح على كل مكون من مكوناته.
فالمعرفة الجزئية تبقى في دائرة الاحتمال والظن، وقد توحي لنا بتصورات غير دقيقة، من هنا تبدو أهمية المعجم الذي يقدم للباحثين خريطة مفصلة للساحة المعرفية يجد فيها الباحث كل ما يعينه على تحديد الاتجاه الصائب والتقييم السليم.
والمؤسسة منذ ولادتها، وقد حددت اختصاصها بالشعر، لم تقنع بالسير في المسالك المطروقة التي لا تكلف إلا النزر من الجهد، بل تطلعت إلى أن تكون رائدة في عظائم الأمور فلم تستسهل عملها في الوقوف عند بعض أشجار الغابة الشعرية السامقة بل كان همها أن تستكشف هذه الغابة بكل ما تحويه من مجاهل ومكونات، وهي مهمة قد يجدها البعض في منتهى العسر، وتحدٍ أقرب إلى المخاطرة لمؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني لا تملك إمكانات الدولة الوفيرة، ولكننا صمّمنا على تحمل هذا العبء وقبول هذا التحدي وفاء لأمة عظيمة جابهت التحديات الكبرى بجسارة: جابهت تحدي الطبيعة (الصحراء) بكل قسوتها وشحها بالكرم والشجاعة، وتحدي الوضع الإنساني بحمل رسالة إلهية حولت الجحيم البشري إلى فردوس أرضي.
والتزاماً منا بهذا النهج الجسور كان المعجم الأول «معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين» الذي بدأت به المؤسسة عملها ولم يمض عام على وجودها وأنجزته عام/1995/ ولأول مرة يخرج إلى الساحة الثقافية العربية معجم يرصد كل الشعراء العرب الأحياء على امتداد الوطن العربي وعلى اختلاف أجيالهم ومدارسهم. وكان عملاً رائداً رسم خريطة شاملة للشعر العربي المعاصر وجد فيها الباحثون ضالتهم التي تعينهم على إدراك المشهد الشعري بكل تفاصيله، ولم تقف المؤسسة عند هذا الإنجاز الكبير بل تطلعت إلى مغامرة أكبر وهي إصدار «معجم البابطين لشعراء العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين» وإذا كنا في المعجم الأول نتعامل مع أحياء يمكن الحديث إليهم فإن المعجم الثاني يتناول شعراء اخترمهم الموت، وكان علينا أن نتواصل مع من يتحدث عنهم، سواء نتاجهم الذي وجد طريقه إلى النشر أم بقي في أسر المخطوطات، أو الاتصال ببعض أقربائهم وأصدقائهم الذين احتفظوا بنثار من نتاجهم وبأطياف من ذكريات عنهم، ولم يكن الأمر سهلاً إذ إننا لم نركز جهدنا على الشعراء المعروفين الذين حفظت المطبعة مكنوناتهم بل كنانحاول أن نصل إلى هؤلاء الذين خرجوا من الحياة دون أن يتعرف إليهم إلا القليل، وبقيت العتمة تحيط بهم وبآثارهم، وكانت مهمتنا الشاقة أن نلقي بعض الضوء على هذه الكثرة من المغمورين، فلم نترك دورية من الدوريات القديمة المبعثرة في أركان المكتبات ولا مخطوطة من المخطوطات، بل طرق باحثونا البيوت على أهلها يسألون ويستفسرون ووجدوا عند البعض ضالتهم، أو يسيراً مما طلبوه، وخلال أكثر من عشر سنوات طاف مئات من الباحثين على امتداد الوطن العربي الكبير، المدن والقرى والبوادي، دخلوا إلى المكتبات العامة والخاصة، ومراكز المخطوطات وفتشوا في وثائق التأمينات الاجتماعية، وشهادات الوفاة والولادة، وبحثوا عن الدوريات ومسودات الشعراء والتقوا بالأقارب والأصدقاء إنصافاً لهؤلاء الذين لم يسعفهم الحظ في أن يكونوا في دائرة الضوء.
كان علينا أن نستكشف قارة كاملة للشعر العربي في العصر الحديث على مدى القرنين التاسع عشر والعشرين وعلى امتداد الجغرافيا العربية، ولم تكن حدود الشعر العربي مؤطرة بالوطن العربي، بل إن غواية الشعر العربي قد امتدت مع اللغة العربية إلى كثير من الشعراء المسلمين من غير العرب الذين أسرتهم اللغة العربية، ووجدوا في الشعر العربي تأكيداً لانتمائهم إلى الجماعة الإسلامية.
وكانت مهمتنا أن نستكشف مجاهل هذه القارة الشعرية الشاسعة التي تمتد من بوينس آيرس في أمريكا اللاتينية إلى إندونيسيا، ومن جبال القوقاس وآسيا الوسطى إلى مجاهل غابات إفريقيا، وحرصنا على أن نبرز كل من مارس الإبداع الشعري قلَّ نتاجه أم كثر، نشر أم ما زال مخطوطاً، لأن كل هؤلاء أسهموا في بناء التراث الشعري في العصر الحديث، وكان هدفنا أن نحدد المعالم والاتجاهات ونترك للباحثين من بعدنا أن يحفروا في طبقات الساحة الشعرية ليكتشفوا ما لم نكتشفه، وليضيفوا إلى ما أشرنا إليه أبعاداً جديدة.
ولم نستثنن من الشعراء أحداً بسبب انتمائه الديني أو المذهبي أو اتجاهه السياسي أو الشعري إلا من وقع في خطيئة «التهافت» الفني أو الأخلاقي، لأن الشعر، وهو أرهف الفنون وأنبلها، حيث تتوهج فيه اللغة لتحرق أثوابها القديمة وتكتسي بروداً جديدة، وحيث تتوهج النفس الإنسانية فتتجاوز حدودها الضيقة لكي تتماهى مع الكون والبشرية يأبى أن يسف فيقع في أسر التحيزات الضيقة والنيل من الآخرين، فالإسفاف في القصد لا بد أن ينعكس على اللغة فتتجمد في حدودها المألوفة، كما يأبى الشعر أن يسلم قياده لمن لا يتجه إلى الشعر بإلحاح من الموهبة والمعرفة بل بدافع من الرغبة وحدها يحاول بها أن يقتحم أسوار الشعر فتزل به قدمه، وهؤلاء هم فقط الذين استثنيناهم لأنهم ليسوا في حقيقة الأمر من الشعراء وإن تزيّوا بعباءة الشعر وعمامته.
وخلال مسيرة طويلة تحملنا فيها العناء راضين، وفككنا أرتالاً من العقبات ولم نبخل بالتكاليف مهما بلغت، تمكنا من أن نزيح الستار والعتمة عن قرابة ثمانية آلاف شاعر وهو عدد ضخم وإن كان هناك في مجاهل قارة الشعر العربي آلاف غيرهم لم يتح لنا أن نكتشفهم، وهذا العدد الهائل يثبت أن أمتنا ما تزال أمة الشعر، وما يزال الهاجس الشعري مسيطراً على أجيالها المتتابعة، وسيفاجئ المطلع على المعجم أن الشعر تغلغل في حنايا كل مراتب المجتمع وفي مختلف اختصاصاتهم، سنجد القانوني والطبيب إلى جانب رجل الدين والمدرس، والعامل والفلاح، إلى جانب الموظف والجندي، والغني بجوار الفقير، وصاحب درجة الدكتوراه يشارك الأمي، كلهم انغمسوا في متعة الشعر وبهرهم ألقه، وسنجد الغواية الشعرية تتجاوز العرب إلى غيرهم من الشعوب في مختلف القارات.
وسنفاجأ أن الكثير من الإرث الشعري - كما في القديم - قد ضاع، إما بسبب المنازعات أو بدافع الإهمال، أو لاستهانة الكثير من الأبناء بما خلفه الآباء من إرث معنوي ظناً منهم أن الإرث المادي وحده هو ما يجب الاهتمام به، فأساءوا إلى آبائهم دون أن ينفعوا أنفسهم.
وإذ يحق لنا الاعتزاز بأننا في «معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين» وفي «معجم البابطين لشعراء العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين» نقدم لوحة شاملة للإبداع الشعري العربي في العصر الحديث لم نسبق إليها، فإن ما قمنا به هو مجرد أداء لواجب تجاه أمتنا العظيمة وثقافتها الغنية.
وإذ نهدي هـذا المعجم إلى جميع أبناء أمتنا، الباحثين منهم والقراء، والمولعين بالشعر فإننا نأمل أن ينال هذا العمل الكبير رضا المطلعين عليه، وبروح من المسؤولية المشتركة فإن هذا العمل هو محاولة لاستكشاف مجاهل الحركة الشعرية العربية المعاصرة، وهي محاولة لا تدعي الكمال، فكل عمل كبير هو حركة إلى الإمام دون أن يكون الحركة النهائية، وهو عمل وإن احتوى على كثير من الإنجازات لا يخلو من العثرات. فالإبداع البشري حركة متصاعدة لا تتوقف، ونحن آذان صاغية لكل ملاحظات وانتقادات الباحثين والقراء نستفيد منها ونعمل على تلافي ما تشير إليه من نواقص وعثرات في طبعات لاحقة.
وإذا كان العمل المخلص عبادة فإننا ندعو الله أن يتقبل منا هذا العمل وأن يثيبنا عليه في الدنيا وفي الآخرة، هذا مبلغ أملنا وهذا قدرنا.
بقي علي واجب التعبير عن الود والشكر والثناء على العصبة من أولي العزم الذين تصدوا لهذا العمل الكبير وعملوا بصمت بعيدًا عن الأضواء أحد عشر عامًا متصلة ليحققوا هذا الإنجاز، وأشير بالتقدير إلى ذكرى العالم الجليل الأستاذ الدكتور أحمد مختار عمر رحمه الله، فقد كان إمام العاملين الفنيين حيث وضع المخطط، وأشرف على النموذج التجريبي، وقاد الجماعة إلى جوار زملائه في مكتب تحرير المعجم، وفريق العمل التنفيذي، وأعضاء الهيئة الاستشارية للمعجم، والزملاء أعضاء مجلس الأمناء الذين تتابعوا منذ بداية العمل حتى صدوره.
والحمد لله في الأول وفي الآخـــر.

رئيس الهيئة الاستشارية للمعجم
رئيس مجلس الأمناء
عبدالعزيز سعود البابطين
3 رجــب 1429 هـ
الموافــق 6 يـوليــو 2008 م